البادية 24 | صحافة عربية 
مشاركة وجهاء العشائر وشيوخها في عمليات المصالحة، ستخدم هدف النظام الأول، وهو عودة أكبر قدر ممكن من المطلوبين إلى مناطقه، والذين سيرفدون قواته العسكرية والميليشيات الموالية له بعدد كبير من المقاتلين.

في خيمتها وسط تجمع للمنازل في الجهة الشمالية لبلدة محميدة في ريف دير الزور الغربي الخاضع لسيطرة “قوات سوريا الديموقراطية”، تستيقظ أم عمار على صوت منبه جوالها الذي ضبطته في الليلة السابقة على السابعة صباحاً، لتنطلق في تجهيز نفسها للعبور إلى مناطق غرب نهر الفرات الخاضعة لسيطرة النظام السوري، للاستفادة من “المصالحة الوطنية” التي أطلقت في المحافظة، تحت إشراف الأجهزة الأمنية وقيادة فرع “حزب البعث” بتوجيهات من رأس النظام السوري بشار الأسد.

ارتدت أم عمار ملابسها وتأكدت من أن أوراقها الثبوتية في حقيبة يدها، اتصلت بمحمد أحد المقربين من أجهزة النظام الأمنية في المحافظة ويعمل على ترتيب عمليات جذب المطلوبين من معارفه وأقاربه لإجراء عمليات المصالحة. الاتصال لم يدم طويلاً، مجرد تحية متبادلة بين الطرفين، ثم أخبر محمد أم عمار أنه ينتظرها عند المعبر النهري في بلدة حوايج ذياب لينقلها إلى مركز المصالحة في مدينة دير الزور.

أم عمار تعيش في مناطق سيطرة “قوات سوريا الديموقراطية” منذ نهاية عام 2017، بعد طرد تنظيم “داعش” من مناطق غرب الفرات وسيطرة النظام وحليفيه روسيا وإيران على المنطقة، وقد أدرج اسمها على قوائم المطلوبين للنظام بسبب تقرير من أحد أبناء قريتها، يتهمها فيه بالعمل مع “داعش”، إبان سيطرته على مناطق شرق سوريا، بين عامي 2014 و2017.

“المصالحة الوطنية” 

في يوم الأحد 14 تشرين الثاني/ نوفمبر، أعلن النظام السوري، انطلاق المصالحة الوطنية في محافظة دير الزور، لتسوية أوضاع المطلوبين والمنشقين عن قواته والمتخلفين عن تأدية الخدمتين الإلزامية والاحتياطية.

انطلاق عملية المصالحة الوطنية في دير الزور، بدأ بلقاء رائد الغضبان عضو اللجنة المركزية أمين فرع “حزب البعث” التابع للنظام السوري، بأعضاء الجهاز الحزبي وقيادات الشعب الحزبية والنقابات المهنية التابعة لحكومة النظام في المحافظة.

الغضبان قدم خلال الاجتماع شرحاً مفصلاً حول ما سماه “مكرمة السيد الرئيس” عن فتح باب المصالحة الوطنية والتسوية العامة لأهالي دير الزور، وأشار الغضبان خلال الاجتماع إلى أن “التسوية تشمل المطلوبين والفارين من الخدمة العسكرية الاحتياطية والإلزامية، لإعادة الحياة الآمنة لهذه المحافظة وعودة جميع المواطنين إلى حضن الوطن”، بحسب قوله.

النظام السوري افتتح مراكز لتسوية أوضاع المستفيدين من المصالحة الوطنية، ويعتبر مركز الصالة الرياضية في مدينة دير الزور أهم تلك المراكز، ويشرف على عمل مراكز المصالحة الغضبان، إضافة إلى قادة الأجهزة الأمنية في المحافظة وبعض وجهاء العشائر، مثل عبد الله الشلاش رئيس مركز المصالحة في المحافظة ونواف البشير شيخ قبيلة البقارة.

وتعمل مراكز المصالحة على تسوية أوضاع المطلوبين للأجهزة الأمنية وتجديد تأجيل المطلوبين للخدمتين الإلزامية والاحتياطية في جيش النظام، بحيث يعطى المتخلفون مدة زمنية بعد إجراء المصالحة وتسوية الوضع لرؤية ذويهم في مكان الإقامة الأصلي، بعدها يلتحق المصالحون بوحدات الجيش العسكرية سواء في المحافظة أو خارجها.

مؤسسات النظام الحزبية والشعبية بخاصة “حزب البعث” تحاول إعطاء عملية المصالحة الوطنية زخماً كبيراً، عبر محاولة إظهار صورة الإقبال الشديد على عمليات التسوية، كما يقوم أعضاء فرع الحزب وشعبه الريفية بجولات يومية لمحاولة دفع الأهالي للتواصل مع أقاربهم في مناطق سيطرة “قوات سوريا الديموقراطية” والمعارضة، لتسوية أوضاعهم، ومن أبرز البعثيين المشاركين في هذا، صالح الدندل رئيس مكتب المنظمات ونسرين ضويحي رئيسة مكتب التربية والطلائع، وحسان العلي أمين شعبة المدينة لـ”حزب البعث”.

الأوقاف وأمن الدولة ووجهاء العشائر في خدمة المصالحة

ساهمت مديرية أوقاف المحافظة في المشاركة والترويج للعملية، إذ عممت على خطباء المساجد تخصيص بعض خطب الجمعة، لحث الناس على التواصل مع أقاربهم وإقناعهم بالعودة وتسوية أوضاعهم والاستفادة من المصالحة الوطنية.

مدير أوقاف محافظة دير الزور التابعة للنظام السوري، الشيخ عبد الهادي عبوش، حث المواطنين على العودة وتسوية أوضاعهم، أثناء خطبة افتتاح المسجد الكبير في مدينة البوكمال أقصى شرق محافظة دير الزور، وقام بجولات للقاء ببعض وجهاء وشيوخ الدين في مدينة البوكمال ومدينة الميادين وبعض قرى ريف دير الزور الشرقي، للسبب ذاته.

ترويج المصالحة لم يقتصر على قيادات “حزب البعث” ومديرية الأوقاف، ففرع أمن الدولة في دير الزور يقود جهوداً كبيرة في سبيل إنجاحها، عبر فتح باب التسوية داخل الفرع للراغبين في الاستفادة من هذه “الفرصة”، ويُشرف عليها العميد عبد الكريم الحمادة مدير الفرع.

الحمادة وهو من عشيرة السخاني، يحاول استثمار علاقاته الجيدة مع شيوخ العشائر للمضي قدماً في تسوية أوضاع المطلوبين، بخاصة العلاقات التي تربطه بمهنا الفياض شيخ عشيرة البوسرايا، ونواف البشير شيخ قبيلة البكارة، وبعض وجهاء قبيلة العكيدات المنتشرة في بلدات وقرى ريف دير الزور الشرقي.

باب المصالحة الذي فتحه النظام، دفع الوجهاء إلى المشاركة الفاعلة في تلك العملية، عبر دعوة أبناء تلك العشائر إلى تسوية أوضاعهم، ومن أهم الشخصيات المشاركة، نواف البشير، مهنا الفياض، عبد الله الشلاش، فواز الوكاع، وهم من وجهاء قبيلة العكيدات.

ويهدف شيوخ العشائر ووجهاؤها من المشاركة في عمليات المصالحة إلى هدفين، الأول تعزيز موقفهم أمام أبناء العشيرة، أما الهدف الثاني، فتعزيز مكانتهم داخل مؤسسات النظام الأمنية والسياسية والسعي للحصول على مكاسب معنوية ومادية، مقابل الجهود التي يبذلونها.

مشاركة وجهاء العشائر وشيوخها في عمليات المصالحة، على رغم أنها تفتح باب المنافسة بين تلك الشخصيات التي يسعى كل منها إلى إثبات قدرته على التأثير في المجتمعات المحلية، إلا أنها تخدم هدف النظام الأول، وهو عودة أكبر قدر ممكن من المطلوبين إلى مناطقه، والذين سيرفدون قواته العسكرية والميليشيات الموالية له بعدد كبير من المقاتلين.

أم عمّار في مركز المصالحة

بعد عبورها نهر الفرات، وجدت أم عمار محمد بانتظارها على الضفة الأخرى، وهو أحد الذين تولوا تنسيق العملية ونقل المجموعة إلى مراكز المصالحة لتسوية أوضاعهم، وبعد اكتمال العدد توجه الجميع إلى “سرفيس” أبيض كان بانتظارهم لينقلهم إلى بناء الصالة الرياضية في مدينة دير الزور.

استغلت أم عمار فترة الرحلة لمحاولة معرفة الإجراءات المطلوبة منها في مركز المصالحة، وحالة الإرباك لم تقتصر عليها وحدها بل تشمل الجميع داخل السرفيس، لكن محمد اختصر الأمر قائلاً إنه سيشرح ما المطلوب وكيف ستسير الأمور قبل دخول مركز المصالحة.

أمام فندق “فرات الشام” على أطراف مدينة دير الزور الغربية، أوقف حاجز للنظام السرفيس، من داخله أطل محمد برأسه ملقياً التحية على عناصر الحاجز، ثم أخبرهم أنهم متجهون إلى مركز المصالحة في الصالة الرياضية، فرد عليه الضابط المسؤول بـ”أهلاً وسهلاً والحمد لله على سلامة الجميع وأتمنى لكم التوفيق”، ثم أمر السائق بمتابعة طريقه.

بعد دخول حي الجورة أول أحياء المدينة من الجهة الغربية للمحافظة، أوقف محمد السرفيس وأنزل الجميع، ويتوجه بهم إلى مركز تصوير فوتوغرافي، حيث يقوم كل شخص بأخذ صورتين شخصيتين وصورة عن بطاقة الهوية لتسليمها إلى مركز المصالحة، كونها أهم الأوراق المطلوبة.

بعد الانتهاء، انتظرت أم عمار ومن معها للدخول إلى المركز، الذي تنقسم أمامه الصفوف بحسب نوع التسوية، فتجد صفاً خاصاً بالمنشقين عن مؤسسات النظام العسكرية، وصفاً آخر للمتخلفين عن تأدية خدمة العلم والخدمة الاحتياطية، إلى صف ثالث للمدنيين المطلوبين لفروع النظام الأمنية كحال أم عمار.

حين وصل دورها، دخلت أم عمار إلى غرفة معزولة بجدران بلاستيكية موقتة، لتجد ضابطاً برتبة ملازم أول في انتظارها. بدأ التحقيق الذي اختصره الضابط بسؤال واحد، “هل لديك أي علاقة مع الجهات الإرهابية المسلحة في سوريا؟”، لتجيب أم عمار بالنفي.

بعد انتهاء التحقيق واستلام ضابط التحقيق الصور الشخصية وصورة البطاقة المدنية، أمر أم عمار بالانتظار في بهو الصالة، وبعد قرابة 20 دقيقة عاد الضابط ليعطيها بطاقة ورقية عليها صورتها الشخصية، هي بطاقة تسوية صادرة عن اللجنة العسكرية والأمنية في دير الزور ممهورة بتوقيع اللواء جمال محمود يونس، رئيس اللجنة الأمنية والعسكرية في محافظة ديرالزور.

بعد الحصول على البطاقة، تنتهي عملية التسوية، ويستطيع حاملها التجول بها داخل سوريا. أم عمار نقلت جميع أفراد أسرتها من مناطق سيطرة “قسد” إلى منزلها في ريف ديرالزور الغربي الخاضع للنظام بعد غياب امتد منذ عام 2017.

دوافع العائدين ومخاوفهم

تقسم دوافع العائدين إلى اثنين، الأول يخص المصالحين من أبناء مناطق غرب الفرات الخاضعة لسيطرة النظام والذين يعيشون في مناطق سيطرة “قوات سوريا الديموقراطية”، والقسم الثاني يتعلق بالمصالحين من أبناء مناطق شرق الفرات الخاضعة لسيطرة “قسد”.

في الحالة الأولى، معظم الأشخاص يتجهون نحو خيار التسوية بسبب الأوضاع الاقتصادية الصعبة وارتفاع تكاليف الحياة وعدم توفر فرص العمل في مناطق نزوحهم. أحمد أحد أبناء بلدة عياش في ريف دير الزور الغربي، أوضح لـ”درج” أن الوضع الاقتصادي أهم أسباب تسوية وضعه الأمني، “دخلي لا يكفي، فأنا أتكبد إيجار منزل ومتطلبات الحياة اليومية الباهظة”.

أحمد أضاف أن عودته إلى بلدة عياش بعد المصالحة ستخفف من تكاليف حياته، فهو يعيش في بيته ولن يضطر إلى استئجار منزل، كما أن بإمكانه أن يزرع أرضه، ما يوفر له القمح للخبز والخضروات الموسمية.

أما مناطق شرق الفرات الخارجة عن سيطرة النظام السوري، فيواجه أبناؤها أسباباً أخرى تدفع بعضهم لتسوية أوضاعهم، منها أن النظام عائد إلى المنطقة لا محالة، وأن الاستفادة من هذه الفرصة قد تجنبهم عمليات انتقامية لاحقاً.

الرأي داخل المجتمعات المحلية عن عودة النظام إلى مناطق شرق الفرات، تعززه أحداث ميدانية، أولها بدء روسيا محاولة تسيير دوريات انطلاقاً من مناطق النظام باتجاه محافظة الحسكة مروراً بمناطق سيطرة “قسد” في دير الزور، والتي يرى فيها السكان أول مراحل عودة النظام إلى المنطقة، ودخول تلك الدوريات لم يحصل بلا رضا التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية في تلك المناطق.

إضافة إلى الدور الذي تلعبه عمليات التفاوض التي تجريها قيادات “قسد” السياسية مع النظام السوري في العاصمة دمشق بشكل متكرر، والتي تهدف للوصول إلى تسوية بين الطرفين.

العامل الثالث، هو التخوف من الانسحاب الأميركي من المنطقة، على غرار ما حدث في منبج وبعض المناطق في وقت سابق، ما يسهّل دخول النظام وحلفائه إلى المنطقة.

في المقابل، تعتبر قضية انقلاب النظام وأجهزته الأمنية على المتصالحين وملاحقتهم أمنياً أهم مخاوف أبناء المحافظة الذين استفادوا من المصالحة، بخاصة بعد اعتقال النظام 4 رجال من أبناء قرية جديد عكيدات، من أحد مراكز التسوية في مدينة دير الزور، أو على غرار ما حصل في محافظة درعا بعد اتفاق التسوية.

“قسد” متضررة من المصالحة

السياسي السوري عبد الناصر العايد يوضح لـ”درج” أن “النظام السوري، يسعى من خلال عمليات المصالحة الوطنية، إلى السيطرة التدريجية على المنطقة بخاصة الخاضعة لسيطرة قسد، كونه لا يستطيع السيطرة عليها عسكرياً، بسبب التحالف الدولي في تلك المناطق، فعمليات المصالحة تمكنه من السيطرة البشرية على السكان المحليين خصوصاً المصالحين منهم والاستفادة من خدماتهم”.

وأضاف العايد، “النظام يسعى إلى تفكيك الكتلة السكانية في المناطق الخاضعة لسيطرة قسد، عبر استقطاب السكان لإجراء عمليات التسوية وبالتالي إيجاد كتلة سكانية تتبع له، كما يريد إنهاء حالة الخوف والعدائية له من المجتمعات المحلية والتي تتخوف من عمليات انتقامية قد يقوم بها النظام في حال دخوله للمنطقة”.

وحول تأثير المصالحة على قسد قال العايد: “إن عمليات المصالحة الوطنية في المحافظة، تشكل ورقة ضغط على قسد والإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، بخاصة في حال اندفاع المجتمع المحلي للمشاركة بها، بحيث يسحب البساط من قسد التي تحاول تصدير نفسها ممثلاً عن المجتمعات المحلية، وهذا يؤثر بشكل كبير في مشروعها للإدارة الذاتية، بحيث يعيدها إلى كيان ممثل عن الأكراد فقط وليس كممثل عن مكونات متنوعة قومياً وجغرافياً”.

ويعيد العايد سبب غياب الدور الروسي هذه المرة كضامن لعملية المصالحة في دير الزور على غرار ما سبق، إلى كون روسيا تركز جهودها لإيجاد تسوية بين النظام والإدارة الذاتية، ولعبها دور الضامن في شرق سوريا قد يقتصر على عملية التسوية بين هذين الطرفين وحسب.

أم عمار التي انتهت من تسوية أوضاعها الأمنية وعادت إلى منزلها بعد سنوات طويلة من الغياب، أخبرتني في حديثنا الأخير عبر “واتساب”، أن “انسداد الآفاق أمامها وعدم قدرتها على تدبر تكاليف الحياة هو ما دفعها لتعود، على أمل أن يمنحها منزلها وأرضها أدنى مقومات الحياة”…


المصدر: درج | محمد حسان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *