البادية 24 | صحافة

الجواب البديهي على السؤال الوارد في العنوان هو: السوريون أنفسهم، أو الشعب السوري، بحسب تفضيلات مختلفة لأصحاب الجواب. فهم المعنيون بالالتزام به في حياتهم السياسية وفي مختلف مجالات الحياة الأخرى. منه تنبثق شرعية السلطة السياسية التي ستحكمهم، وهو المرجع في حل المشكلات الأساسية التي ستواجههم. يستفيدون من حمايته ويتضررون من الإخلال به.
طبيعي أن السوريين جميعاً لا يمكنهم، تقنياً، أن يجتمعوا لصياغة نصوص الدستور، فلا بد من تمثيل قطاعاتهم بأفراد يعبرون عن تطلعاتهم وهواجسهم ومصالحهم، ولديهم حد معين من الإلمام بكيفية صياغة الدساتير، والميادين التي ينبغي أن تشملها أحكامها، إلى آخر ذلك من مقتضيات، ليأتي الدستور معبراً عن إرادة جمعية مهما بلغت الخلافات الآنية بين مختلف السوريين.
مع ذلك لن ينال الدستور شرعيته مهما كان التمثيل الشعبي مطابقاً في اختيار ما يسمى بلجنة صياغة الدستور. لذلك يسمى النص الذي توافقت عليه اللجنة بمسودة دستور، غالباً ما تخضع لتعديلات بعد طرحها للنقاش العام الذي يمكن لكل مواطن أن يشارك فيه. ثم يكون هناك استفتاء عام لتتحول المسودة إلى دستور فتكتسب الشرعية، ويصبح هذا مصدراً لشرعية السلطة السياسية.
في حالة سوريا سنرى أن كل ما سبق يبقى معلقاً في الهواء، سواء من حيث البيئة المناسبة للمضي قدماً في الخطوات المذكورة أعلاه، أو في الشروط المحيطة التي فرضت الخوض في هذا الموضوع، أو في موازين القوى المحلية والدولية المؤثرة في «العملية الدستورية». بل قبل كل ذلك ليس هناك تحديد واضح لـ»الشعب السوري» المعني مبدئياً، ولا هناك دولة سورية موحدة وبحدود واضحة لتشكل نطاقا جغرافيا – سياسيا للولاية الدستورية. النظام الأسدي له قراءة مختلفة طبعاً لا تقتصر مزاعمها على وجود دولة سورية ذات سيادة، تسعى لتحرير ما تبقى من أراض واقعة خارج سيطرتها، بل تقول أيضاً إن هناك بالفعل دستورا للبلاد، هو دستور 2012 الذي صدر بموجب استفتاء شعبي.

لكن المجتمع الدولي له رأي آخر، هو المعبر عنه بالقرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن في العام 2015، الذي ينطلق من أساس وجود صراع في سوريا يجب أن يحل حلاً سياسياً، تكون صياغة دستور جديد نتيجة له، دستور جديد يراعي موازين القوى الاجتماعية القائمة من جهة، ويرسم ملامح الحياة السياسية لسوريا مستقرة بعد نهاية الصراع. لا يتنطح القرار المذكور لوضع إطار معين لصياغة الدستور، بل يترك ذلك «للسوريين أنفسهم» كما يجب أن يكون. بمعنى أن قرار مجلس الأمن لم يتضمن فرض دستور على الأطراف السوريين، بل رأى أن وجود صراع على السلطة لم يحسمه السلاح، يفترض حلاً سياسياً، أي توافقاً بين المتصارعين، يتوج بصياغة دستور يحظى بقبول مختلف أطراف الصراع.
«صمود» النظام الأسدي في وجه الانتفاضة الشعبية، والتشكيلات المسلحة المعارضة، كما أمام ضغوط المجتمع الدولي، دفع الأخير إلى صرف النظر عن الصراع السوري، وتلزيم روسيا بحله على طريقتها. تحت يافطة «ليس هناك حل للصراع في سوريا إلا الحل السياسي» خاضت روسيا حربها على المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، فقسمت الأراضي السورية إلى ما أسمته «مناطق خفض التصعيد» التي أعادتها واحدة بعد أخرى إلى سيطرة النظام، بواسطة القصف الوحشي والحصار القاتل، ولم يبق من تلك المناطق سوى الرابعة التي تشمل محافظة إدلب وجوارها.
بموازاة خطة الإخضاع بالعنف للمناطق المذكورة، فتحت روسيا «مساراً سياسياً» للتحايل على قرار مجلس الأمن المشار إليه، من غير رفضه علناً، هو «مسار آستانا» الذي جمع ثلاثة دول لها وجود مسلح على الأراضي السورية، أو لها نفوذ على تشكيلات مسلحة محلية أو مستوردة، روسيا وإيران وتركيا، مع بقاء الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين خارج المسار. وللتغطية على هذا التدويل المطلق، أدارت روسيا مساراً آخر (سوتشي) مخصصاً للقوى المتصارعة المحلية، أي النظام والمعارضة، انتهى إلى إنشاء «لجنة دستورية» تضم نظرياً ممثلي الطرفين إضافة إلى ممثلي طرف ثالث هو «المجتمع المدني».
باركت منظمة الأمم المتحدة هذا الاختراع، اللجنة الدستورية، من خلال ممثلها ستيفان ديمستورا الذي أشرف على العملية، وتم اختزال قرار مجلس الأمن 2254 إلى مشكلة دستورية يحلها السوريون أنفسهم. مرت ثلاث سنوات منذ بداية تشكيل اللجنة المذكورة، بصرف النظر عن مدى الشرعية التمثيلية لأعضائها، وعقدت عدداً من الاجتماعات للإيهام بوجود «عملية سياسية»، مع علم جميع الناس أنها عملية تمريك وقت بانتظار تغيير موازين القوى لمصلحة روسيا وتابعها النظام السوري.
موازين القوى هذه صامدة بدورها مثل صمود نظام بشار في السلطة، ولا يتوقع أن تتغير بصورة دراماتيكية في الفترة القريبة القادمة، القوات الأمريكية باقية في الأمد المنظور، وتتجاوز مفاعيلها حجمها المحدود، بعدما تراجعت التوقعات بشأن تكرار المثال الأفغاني في شمال شرق سوريا. القوات التركية باقية أيضاً في شمال غرب سوريا وجيب شرقي الفرات، إلى حين فرض «الحل النهائي». هاتان العقبتان هما ما يمنع «الحل السياسي» على الطريقة الروسية، أي بفرض سيطرة النظام على كامل الأراضي السورية بقوة السلاح.
بخلاف الرأي الشائع، لا يتمرد النظام على حليفه الروسي حين يواصل عرقلته لعمل اللجنة الدستورية، بل هناك تناغم تام بينهما. ذلك لأن انتهاء اللجنة إلى صياغة مسودة دستور سيعني اضطرار روسيا إلى الانتقال إلى بنود أخرى من «سلال ديميستورا الأربع» أو التنكر التام لقرار مجلس الأمن 2254. وهو ما لا يناسب الروس ولا النظام. وما كان تشكيل اللجنة الدستورية، على مثال وضع العربة أمام الحصان، إلا للتهرب من استحقاقات انتقال السلطة إلى «هيئة حكم انتقالي».
في ظل هذه الشروط، من العبث الكلام عن صياغة دستور لسوريا سواء صاغه سوريون أم فرض عليهم من خارج. هذا العبث هو الوظيفة التي يؤديها الممثل الأممي غير بيدرسون.


 


المصدر: القدس العربي | بكر صدقي

اترك تعليقاً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *